الفُرجة- بين الظاهر والباطن، أصالة الخير ودخالة الحداثة

المؤلف: علي بن محمد الرباعي09.07.2025
الفُرجة- بين الظاهر والباطن، أصالة الخير ودخالة الحداثة

في سالف العصر والأوان، كانت الأم تطلق دعوة ساخطة على ولدها المشاغب قائلة: "الله يجعلك فرجة للناس!"، وذلك قبل أن يكتسح مفهوم "الفرجة" هذا العالم الفسيح. في تلك الحقبة، لم تكن المجتمعات المنتجة تمتلك فسحة من الوقت للتفرّج على بعضها البعض، ولم يتردد على مسامعي مصطلح "نتفرج" إلا مع دخول التلفاز إلى بيوتنا المتواضعة. حتى مناسبات "العرضة" التي كانت تُقام احتفاءً بالزواجات، لم تكن تُعتبر "فرجة"، بل كان عشاقها يقولون بشغف: "هيا بنا نذهب لنخيّل في العرضة!"، ولا أعلم إن كان "نخيّل" مشتقة من "الخيال" أم "التخييل"، فالمفردات ليست اعتباطية عند صائغيها الأوائل.

قد تكون إحدى المعضلات الراهنة هي صعوبة الفصل بين الحالات الواعية المستنيرة وتلك الجامدة التقليدية، فالظاهر والباطن يبدوان متصلين ومنفصلين في آن، وقد يكون أحدهما خادعًا أو مراوغًا أو حتى انتهازيًا. فالمسافة بين الحداثة والتجديد وبين التقليدية والجمود تتسع وتضيق تبعًا لدواعي التقهقر إلى الوراء ومساعي المضي قدمًا، وليس كل تقدم هو بالضرورة تقدمًا حقيقيًا أو مضيئًا، فالبعض يتقدم بالشكل دون الجوهر، أو بالمبنى دون المعنى، أو بالجسد فقط دون الروح والعقل. فالحياة مسيرة عقلانية متواصلة، لا تنتظر أحدًا ولا تتحمل مسؤولية تعثر المتأخرين أو المتخلفين.

يدرك علماء الاجتماع وعلماء النفس أكثر من غيرهم تأثير الموروثات الجينية والبيئة الاجتماعية والظروف الاقتصادية في تشكيل شخصياتنا. فالبعض يرونها سوية، بينما يراها آخرون معتلة، والسوية والاعتلال قد لا تكون أحكامًا موضوعية، بل تعتمد على ردة فعل الفرد تجاه تصرف أو سلوك ما، وردود الأفعال غالبًا ما تكون ذاتية وعاطفية. التعمق في تحليل حالة أو ظاهرة ما قد يؤدي إلى الغرق في متاهات الإبحار دون بوصلة، وأولئك الذين زعموا أنهم فهموا كنه الصور والمراحل الضبابية قد تورطوا في تفسيرات خاطئة.

أزعم أن المظهر الخارجي لا يعكس دائمًا الجوهر الحقيقي، ففي الحديث النبوي الشريف: "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه". كم نعرف أشخاصًا نتمنى لو لم نعرفهم أبدًا، وآخرين نتمنى لو عرفناهم منذ زمن بعيد. فالانطباع الأول قد يكلف صاحبه ثمنًا باهظًا، وكما قيل: "المظاهر خداعة"، ومجتمع "الفرجة" لا يقدم صورة حقيقية عن واقع الشخص، كالنص الحزين الذي يكتبه أديب وهو في قمة سعادته، والشاعرة البدوية فطنت لأهمية تجميل المظهر الخارجي رغم فساد الجوهر الداخلي، وهي تقول: "يزبرقون الغمارة والبلا جوّا".

من مظاهر الطفرة والنهضة بروز شرائح مجتمعية لم تكن تحلم بهذا الظهور الاقتصادي والاجتماعي. فالرخاء الفاحش منحها مظهرًا غير مظهرها الأصلي، والتدين الشكلي أكسبها قبولاً وثقة مفرطة. وكما قال الإمام علي كرم الله وجهه: "إذا أقبلت الدنيا على عبد كسته محاسن غيره، وإن أدبرتْ عن عبد سلبته محاسن نفسه". فالتدين في زمن الصحوة يخلق صورة مثالية مبنية على الشكل الخارجي والمظهر المتدين، والمال أصبح وسيلة للكسب والوصول السريع إلى كل ما يصعب الوصول إليه بالاعتماد على الماديات والمظاهر الزائفة.

أميل إلى عدم الخوض في الماضي للكشف عن عيوب الآخرين وتشويه حاضرهم، ولكن يجب دراسة الظواهر قبل أن تندثر معالمها، مثل انخراط المتدين في الحداثة وتقمص الثري لأخلاق الكادحين. فالمظهر لا يكشف دائمًا الخفي، ومن غير الحكمة الوثوق في الوعي بمجرد قراءة تغريدة أو مقالة أو مشاهدة موقف يوحي بالتحضر، كما أنه من الحماقة وصف شخص متلاعب بالذمة بأنه نزيه، فكما يتستر الظلامي بالتنوير كي لا ينكشف، يتغنى المتلاعب بالنزاهة والأنظمة والرزق الحلال لتفادي سوء الظن به، فالأمور ليست دائمًا على ظاهرها.

الحداثة تعني الانتقال من الأفكار والسلوك التقليدي إلى التمدن والتحديث في الشكل والجوهر، بالعلم والثقافة والأدب والفن، ولكنها لا تلغي القيم الأساسية كالصدق والأمانة والعدل والأخلاق. ولجهل البعض بمفهومها، انخرطوا في متطلبات السوق ظنًا منهم أنها الحداثة الحقيقية. والمحزن هو غرق هذه الأجساد الحديثة شكلاً في التقليدية والتسليم بالخرافات والشائعات والعصبية والعنصرية والعبثية.

من الطبيعي أن يكون لكل عصر تقدميته ورجعيته، فالمتقدم ليس متهورًا بالضرورة، ولا الرجعي جبانًا حتمًا. فالمحفز لتبني ما نؤمن به يتعلق بالجوهر، الذي قد يكون ناصحًا أمينًا أو غاشًا أو مغشوشًا. والبعض يدرب نفسه على تمثيل جميع الأدوار، ولا يخجل من التلون حسب الموقع والموقف، ولكن هذا الشخص يصبح مادة للفرجة، بينما يرفض البعض أن يكون سلعة معروضة، ويهتم بديكوراته لجذب الانتباه، حتى لو أصبح مثار سخرية ونقد لاذع، فيوصف بأنه فارغ وهش وسطحي، ولا يدرك أن هذا التهريج لا علاقة له بالحداثة، بل مرتبط بجذور وتراكمات وعوارض نقص بسبب تهميش أو استهانة مجتمعية أو فاقة وعوز. فهو يسعى جاهدًا للتعويض عن ذلك بالتحول إلى "فرجة"، وكأن دعوة أمه قد استجيبت.

يبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي والعصر الرقمي قد نصرا لأبطال ومشاهير يجيدون استعراض أنفسهم، وجعلوهم مادة للعرض والاستعراض، ومن اللافت أن جرأة البعض تتجاوز حدود اللياقة، ولكن كثرة الأمور السيئة لا تعني ندرة الأمور الجيدة، فوسائل التواصل الاجتماعي، مثلما تظهر الأشياء التافهة في الأعلى، تحفظ حق ما ينفع الناس، وتسويق الأمور الضارة لا يلغي وجود الأمور النافعة. وإذا كان البعض لا يتردد في الاحتيال على الله، فلن يتورع عن الاحتيال على خلقه.

في زمن "الفرجة"، يصبح المعروض أقرب إلى سلعة أو بضاعة، ومن البضائع الرخيص ومنها النفيس، وليس كل من تغنى بالحداثة متحضرًا حقًا، فقد رأينا وسمعنا وعشنا تجارب مع من أوهمنا بأنه مغرم بالحداثة ويردد مصطلحاتها ويحفظ مناهجها ويُدرس أدبياتها، ولكن الإخفاق يلاحقه عند أول اختبار، فيتحول إلى "فرجة".

كلمة أخيرة: من الحكم المتوارثة: "لا تعاشر نفسًا شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل، وعاشر نفسًا جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة